فصل: ذكر قبض السلطان مسعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ما جرى بعمان بعد موت أبي القاسم بن مكرم

لما توفي أبو القاسم بن مكرم خلف أربعة بنين‏:‏ أبو الجيش والمهذب وأبو محمد وآخر صغير فولي بعده ابنه أبو الجيش وأقر علي بن هطال المنوجاني صاحب جيش أبيه على قاعدته وأكرمه وبالغ في احترامه فكان إذا جاء إليه قام له فأنكر هذه الحال عليه أخوه المهذب فطعن على ابن هطال وبلغه ذلك فأضمر له سوءًا واستأذن أبا الجيش في أن يحضر أخاه المهذب لدعوة عملها له فأذن له في ذلك فلما حضر المهذب عنده خدمه وبالغ في خدمته فلما أكل وشرب وانتشى وعمل السكر فيه قال له ابن هطال‏:‏ إن أخاك أبا الجيش فيه ضعف وعجز عن الأمر والرأي أننا نقوم معك وتصير أنت الأمير وخدعه فمال إلى هذا الحديث فأخذ ابن هطال خطه بما يفوض إليه وبما يعطيه من الأعمال إذا عمل معه هذا الأمر‏.‏

فلما كان الغد حضر ابن هطال عند أبي الجيش وقال له‏:‏ إن أخاك كا نقد أفسد كثيرًا من أصحابك عليك وتحدث معي واستمالني فلم أوافقه فلهذا كان يذمني ويقع في وهذا خطه بما استقر هذه الليلة‏.‏

فلما رأى خط أخيه أمره بالقبض عليه ففعل ذلك واعتقله ثم وضع عليه من خنقه وألقى جثته إلى منخفض من الأرض وأظهر أنه سقط فمات‏.‏

ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير وأراد ابن هطال أن يأخذ أخاه أبا محمد فيوليه عمان ثم يقتله فلم تخرجه إليه والدته وقالت له‏:‏ أنت تتولى الأمور وهذا صغير لا يصلح لها‏.‏

ففعل ذلك وأساء السيرة وصادر التجار وأخذ الأموال‏.‏

وبلغ ما كان منه مع بني مكرم إلى الملك أبي كاليجار والعادل أبي منصور ابن مافنة فأعظما الأمر واستكبراه وشد العادل في الأمر وكاتب نائبًا كان لأبي القاسم بن مكرم بجبال عمان يقال له المرتضى وأمره بقصد ابن هطال وجهز العساكر من البصرة لتسير إلى مساعدة المرتضى فجمع المرتضى الخلق وتسارعوا إليه وخرجوا عن طاعة ابن هطال وضعف أمره واستولى المرتضى على أكثر البلاد ثم وضعوا خادمًا كان لابن مكرم وقد التحق بابن هطال على قتله وساعده على ذلك فراش كان له فما سمع العادل بقتله سير إلى عمان من أخرج أبا محمد بن مكرم ورتبه في الإمارة وكان قد استقر أن الأمر لأبي محمد في هذه السنة‏.‏

  ذكر الحرب بين أبي الفتح ابن أبي الشوك وبين عمه مهلهل

في هذه السنة كان بين أبي الفتح ابن أبي الشوك وبين عمه مهلهل حرب شديدة‏.‏

وكان سبب ذلك أن أبا الفتح كان نائبًا عن والده في الدينور وقد عظم محله وافتتح عدة قلاع وحمى أعماله من الغز وقتل فيهم فأعجب بنفسه وصار لا يقبل أمر والده‏.‏

فلما كان هذه السنة في شعبان سار إلى قلعة بلوار ليفتحها وكان فيها زوجة صاحبها وكان من الأكراد فعلمت أنها تعجز عن حفظها فراسلت مهلهل بن محمد بن عناز وهو بحلله في نواحي الصامغان واستدعته لتسلم إليه القلعة فسأل الرسول عن أبي الفتح‏:‏ هل هو بنفسه على القلعة أم عسكره فأخبره أنه عاد عنها وبقي عسكره فسار مهلهل إليها فلما وصل رأى أبا الفتح قد عاد إلى القلعة فقصد موضعًا يوهم أبا الفتح أنه لم يرد هذه القلعة ثم رجع عائدًا وتبعه أبا الفتح ولحقه وتراءت الفئتان فعاد مهلهل إليه فاقتتلوا فرأى أبو الفتح من أصحابه تغيرًا فخافهم فولى منهزمًا وتبعه أصحابه في الهزيمة وقتل عسكر مهلهل من كان في عسكر أبي الفتح من الرجالة وساروا في أثر المنهزمين يقتلون ويأسرون ووقف فرس أبي الفتح به فأسر وأحضر عند عمه مهلهل فضربه عدة مقارع وقيده وحبسه عنده وعاد‏.‏

ثم إن أبا الشوك جمع عساكره وسار إلى شهرزور وحصرها وقصد بلاد أخيه ليخلص ابنه أبا الفتح فطال الأمر ولم يخلص ابنه وحمل مهلهل اللجاج على أن استدعى علاء الدولة بن كاكويه إلى بلد أبي الفتح فدخل الدينور وقرميسين وأساء إلى أهلها وظلمهم وملكها وكان ذلك سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة‏.‏

  ذكر شغب الأتراك على جلال الدولة ببغداد

في هذه السنة شغب الأتراك على الملك جلال الدولة ببغداد وأخرجوا خيامهم إلى ظاهر البلد ثم أوقعوا النهب في عدة مواضع فخافهم جلال الدولة فعبر خيامه إلى الجانب الغربي وترددت الرسل بينهم في الصلح وأراد الرحيل عن بغداد فمنعه أصحابه فراسل دبيس بن مزيد وقرواشًا صاحب الموصل وغيرهما وجمع عنده العساكر فاستقرت القواعد بينهم وعاد إلى داره وطمع الأتراك وآذوا الناس ونهبوا وقتلوا وفسدت الأمور بالكلية إلى حد لا يرجى صلاحه‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في جمادى الآخرة ولد للخليفة القائم بأمر الله ولده أبو العباس وهوذخيرة الدين‏.‏

وفيها توفي شبيب بن وثاب النميري صاحب الرقة وسروج وحران‏.‏

وفيها توفي أبو نصر بن مشكان كاتب الإنشاد لمحمود بن سبكتكين ولولده مسعود وكان من الكتاب المفلقين رأيت له كتابة في غاية الجودة‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

  ذكر ابتداء الدولة السلجوقية وسياقة أخبارهم متتابعة

في هذه السنة اشتد ملك السلطان طغرلبك محمد وأخيه جغري بك داود ابني ميكائيل بن سلجوق بن تقاق فنذكر أولًا حال آبائه ثم نذكر حاله كيف تنقلت حتى صار سلطانًا على أنني قد ذكرت أكثر أخبارهم متقدمة على السنين وإنما أوردناها هاهنا مجموعة لترد سياقًا واحدًا فهي أحسن فأقول‏:‏ فأما تقاق فمعناه القوس الجديد وكان شهمًا ذا رأي وتدبير وكان مقدم الأتراك الغز ومرجعهم إليه لا يخالفون له قولًا ولا يتعدون أمرًا‏.‏

فاتفق يومًا من الأيام أن ملك الترك الذي يقال له بيغو جمع عساكره وأراد المسير إلى بلاد الإسلام فنهاه تقاق عن ذلك وطال الخطاب بينهما فيه فأغلظ له ملك الترك الكلام فلطمه تقاق فشج رأسه فأحاط به خدم ملك الترك وأرادوا أخذه فمانعهم وقاتلهم واجتمع معه من أصحابه من منعه فتفرقوا عنه ثم صلح الأمر بينهما واقام تقاق عنده وولد له سلجوق‏.‏

وأما سلجوق فإنه لما كبر ظهرت عليه أمارات النجابة ومخايل التقدم فقربه ملك الترك وقدمه ولقبه سباشي معناه قائد الجيش وكانت امرأة الملك تخوفه من سلجوق لما ترى من تقدمه وطاعة الناس له والانقياد إليه وأغرته بقتله وبالغت في ذلك‏.‏

وسمع سلجوق الخبر فسار بجماعته كلهم ومن يطيعه من دار الحرب إلى ديار الإسلام وسعد بالإيمان ومجاورة المسلمين وازداد حاله علوًا وإمرة وطاعة وأقام بنواحي جند وأدام غزو كفار الترك وكان ملكهم يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار وطرد سلجوق عماله منها وصفت للمسلمين‏.‏

ثم إن بعض ملوك السامانية كان هارون بن ايلك الخان قد استولى على بعض أطراف بلاده فأرسل إلى سلجوق يستمده فأمده بابنه أرسلان في جمع من أصحابه فقوي بهم الساماني على هارون واسترد ما أخذه منه وعاد أرسلان إلى أبيه‏.‏

وكان لسلجوق من الأولاد‏:‏ أرسلان وميكائيل وموسى وتوفي سلجوق بجند وكان عمره مائة سنة وسبع سنين ودفن هناك وبقي أولاده فغزا ميكائيل بعض بلاد الكفار الأتراك فقاتل وباشر القتال بنفسه فاستشهد في سبيل الله وخلف من الأولاد‏:‏ بيغو وطغرلبك محمدًا وجغري بك داود فأطاعهم عشائرهم ووقفوا عند أمرهم ونهيهم ونزلوا بالقرب من بخارى على عشرين فرسخًا منها فخافهم أمير بخارى فأساء جوارهم وأراد إهلاكهم والإيقاع بهم فالتجأوا إلى بغراجان ملك تركستان وأقاموا في بلاده واحتموا به وامتنعوا واستقر الأمير بين طغرلبك وأخيه داود أنهما لا يجتمعان عند بغراجان إنما يحضر عنده أحدهما ويقيم الآخر في أهله خوفًا من مكر يمكره بهم فبقوا كذلك‏.‏

ثم إن بغراجان اجتهد في اجتماعهما عنده فلم يفعلا فقبض على طغرلبك وأسره فثار داود في عشائره ومن يتبعه وقصد بغراجان ليخلص أخاه فأنفذ إليه بغراجان عسكرًا فاقتتلوا فانهزم عسكر بغراجان وكثر القتل فيهم وخلض أخاه من الأسر وانصرفوا إلى جند وهي قريب بخارى فأقاموا هناك‏.‏

فلما انقرضت دولة السامانية وملك ايلك الخان بخارى عظم محل أرسلان ابن سلجوق عم داود وطغرلبك بما وراء النهر وكان علي تكين في حبس أرسلان خان فهرب وهو أخو ايلك الخان ولحق ببخارى واستولى عليها واتفق مع أرسلان بن سلجوق فامتنعا واستفحل أمرهما وقصدهما ايلك أخو أرسلان خان وقاتلهما فهزماه وبقيا ببخارى‏.‏

وكان علي تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين فيما يجاوره في بلاده ويقطع الطريق على رسله المترددين إلى ملوك الترك فلما عبر محمود جيحون على ما ذكرناه هرب علي تكين من بخارى وأما أرسلان بن سلجوق وجماعته فإنهم دخلوا المفازة والرمل فاحتموا من محمود فرأى محمود قوة السلجوقية وما لهم من الشوكة وكثرة العدد فكاتب أرسلان ابن سلجوق واستماله ورغبه فورد إليه فقبض يمين الدولة عليه في الحال ولم يمهله وسجنه في قلعة ونهب خركاهاته واستشار فيما يفعل بأهله وعشيرته فأشار أرسلان الجاذب وهو من أكبر خواص محمود بأن يقطع أباهمهم لئلا يرموا بالنشاب أو يغرقوا في جيحون فقال له‏:‏ ما

أنت إلا قاسي القلب‏!‏ ثم أمر بهم فعبروا نهر جيحون ففرقهم في نواحي خراسان ووضع عليهم الخراج فجار العمال عليهم وامتدت الأيدي إلى أموالهم وأولاهم فانفصل منهم أكثر من ألفي رجل وساروا إلى كرمان ومنها إلى أصبهان وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن كاكويه حرب قد ذكرناها فساروا من أصبهان إلى أذربيجان وهؤلاء جماعة أرسلان‏.‏

فأما أولاد إخوته فإن علي تكين صاحب بخارى أعمل الحيل في الظفر بهم فأرسل إلى يوسف بن موسى بن سلجوق وهو ابن عم طغرلبك محمد وجغري بك داود ووعده الإحسان وبالغ في استمالته وطلب منه الحضور عنده ففعل ففوض إليه علي تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته وأقطعه أقطاعًا كثيرة ولقب بالأمير اينانج بيغو‏.‏

وكان الباعث له على ما فعله به أن يستعين به وبعشيرته وأصحابه على طغرلبك وداود ابني عمه ويفرق كلمتهم ويضرب بعضهم ببعض فعلموا مراده فلم يطعه يوسف إلى شيء مما أراده منه فلما رأى علي تكين أن مكره لم يعمل في يوسف ولم يبلغ به غرضًا أمر بقتله فقتل يوسف تولى قتله أمير من أمراء علي تكين اسمه الف قرا‏.‏

فلما قتل عظم ذلك على طغرلبك وأخيه داود وجميع عشائرهما ولبسوا ثياب الحداد وجمعا من الأتراك من قدرا على جمعه للأخذ بثأره وجمع علي تكين أيضًا جيوشه وسيرها إليهم فانهزم عسكر علي تكين وكان قد ولد السلطان ألب أرسلان بن داود أول محرم سنة عشرين وأربعمائة قبل الحرب فتبركوا به وتيمنوا بطلعته وقيل في مولده غير ذلك‏.‏

فلما كان سنة إحدى وعشرين قصد طغرلبك وداود ألب قرا الذي قتل يوسف ابن عمهما فقتلاه وأوقعا بطائفة من عسكر علي تكين فقتلا منها نحو ألف رجل فجمع علي تكين عسكره وقصدهم هو وأولاده ومن حمل السلاح من أصحابه وتبعهم من أهل البلاد خلق كثير فقصدوهم من كل جانب وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل فيها كثير من عساكر السلجوقية وأخذت أموالهم وأولادهم وسبوا كثيرًا من نسائهم وذراريهم فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان‏.‏

فلما عبروا جيحون كتب إليهم خوارزمشاه هارون بن التونتاش يستدعيهم ليتفقوا معه وتكون أيديهم واحدة‏.‏

فسار طغرلبك وأخواه داود وبيغو إليه وخيموا بظاهر خوارزم سنة ست وعشرين ووثقوا به واطمأنوا إليه فغدر بهم فوضع عليهم الأمير شاهملك فكبسهم ومعه عسكر من هارون فأكثر القتل فيهم والنهب والسبي وارتكب من الغدر خطة شنيعة فساروا عن خوارزم بجموعهم إلى مفازة نسا قصدوا مرو في هذه السنة أيضًا ولم يتعرضوا لأحد بشر وبقي أولادهم وذراريهم في الأسر‏.‏

وكان الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين هذه السنة بطبرستان قد ملكها كما ذكرناه فراسلوه وطلبوا منه الأمان وضمنوا أنهم يقصدون الطائفة التي تفسد في بلاده ويدفعونهم عنها ويقاتلونهم ويكونون من أعظم أعوانه وعلى غيرهم‏.‏

فقبض على الرسل وجهز عسكرًا جرارًا إليهممع ايلتغدي حاجبه وغيرهم من الأمراء الأكابر فساروا إليهم والتقوا عند نسا في شعبان من السنة واقتتلوا وعظم الأمر وانهزم السلجوقية وغنمت أموالهم فجرى بين عسكر مسعود منازعة في الغنيمة أدت إلى القتال‏.‏

واتفق في تلك الحال أن السلجوقية لما انهزموا قال لهم داود‏:‏ إن العسكر الآن قد نزلوا واطمأنوا وأمنوا الطلب والرأي أن نقصدهم لعلنا نبلغ منهم غرضًا‏.‏

فعادوا فوصلوا إليهم وهم على تلك الحال من الاختلاف وقتال بعضهم بعضًا فأوقعوا بهم وقتلوا منهم وأسروا واستردوا ما أخذوا من أموالهم ورجالهم وعاد المنهزمون من العسكر إلى الملك مسعود وهو بنيسابور فندم على رده طاعتهم وعلم أن هيبتهم قد تمكنت من قلوب عساكره وأنهم قد طمعوا بهذه الهزيمة وتجرأوا على قتال العساكر السلطانية بعد الخوف الشديد وخاف من أخوات هذه الحادثة فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم فقال طغرلبك لإمام صلاته‏:‏ اكتب إلى السلطان ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فكتب ما قال فلما ورد الكتاب على مسعود أمر فكتب إليهم كتاب مملوء من المواعيد الجميلة وسير معه الخلع النفيسة وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط وهي مدينة على جيحون ونهاهم عن الشر والفساد وأقطع دهستان لداود ونسا لطغرلبك وفراوة لبيغو ولقب مل واحد منهم بالدهقان‏.‏

فاستخفوا بالرسول والخلع وقالوا للرسول‏:‏ لو علمنا أن السلطان يبقي علينا إذا قدر لأطعناه ولكنا نعلم أنه متى ظفر بنا أهلكنا لما عملناه وأسلفناه فنحن لا نطيعه ولا نثق به‏.‏

وأفسدوا ثم كفوا وتركوا ذلك فقالوا‏:‏ إن كان لنا قدرة على الانتصاف من السلطان وإلا فلا حاجة بنا إلى إهلاك العالم ونهب أموالهم وأرسلوا إلى مسعود يخادعونه بإظهار الطاعة له والكف عن الشر ويسألونه أن يطلق عمهم أرسلان بن سلجوق من الحبس فأجابهم إلى ذلك فأحضره عنده ببلخ وأمره بمراسلة بني أخيه بيغو وطغرلبك وداود يأمرهم بالاستقامة والكف عن الشر فأرسل إليهم رسولًا يأمرهم بذلك وأرسل معه إشفى وأمره بتسليمه إليهم فلما وصل الرسول وأدى الرسالة وسلم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا وعادوا إلى أمرهم الأول في الغارة والشر فأعاده مسعود إلى محبسه وسار إلى غزنة فقصد السلجوقية بلخ ونيسابور وطوس وجوزجان على ما ذكرناه‏.‏

وأقام داود بمدينة مرو وانهزمت عساكر السلطان مسعود منهم مرة بعد مرة واستولى الرعب على أصحابه لاسيما مع بعده إلى غزنة فتوالت كتب نوابه وعماله إليه يستغيثون به ويشكون إليه ويذكرون ما يفعل السلجوقية في البلاد وهو لا يجيبهم ولا يتوجه إليهم وأعرض عن خراسان والسلجوقية واشتغل بأمور بلاد الهند‏.‏

فلما اشتد أمره بخراسان وعظمت حالهم اجتمع وزراء مسعود وأرباب الرأي في دولته وقالوا له‏:‏ إن قلة المبالاة بخراسان من أعظم سعادة السلجوقية وبها يملكون البلاد ويستقيم لهم الملك ونحن نعلم وكل عاقل أنهم إذا تركوا على هذه الحال استولوا على خراسان سريعًا ثم ساروا منها إلى غزنة وحينئذ لا ينفعنا حركاتنا ولا نتمكن من البطالة والاشتغال باللعب واللهو والطرب‏.‏

فاستيقظ من رقدته وأبصر رشده بعد غفلته وجهز العساكر الكثيرة مع أكبر أمير عنده يعرف بسباشي وكان حاجبه وقد سيره قبل إلى الغز العراقية وقد تقدم ذكر ذلك وسير معه أميرًا كبيرًا اسمه مرداويج ابن بشو‏.‏

وكان سباشي جبانًا فأقام بهراة ونيسابور ثم أغار بغتة على مرو وبها داود فسار مجدًا فوصل إليها في ثلاثة أيام فأصاب جيوشه ودوابه التعب والكلال فانهزم داود بين يديه ولحقه العسكر فحمل عليه صاحب جوزجان فقاتله داود فقتل صاحب جوزجان وانهزمت عساكره فعظم قتله على سباشي وكل من معه ووقعت عليهم الذلة وقويت نفوس وعاد داود إلى مرو فأحسن السيرة في أهلها وخطب له فيها أول جمعة في رجب سنة ثمان وعشرين واربعمائة ولقب في الخطبة بملك الملوك وسباشي يمادي الأيام ويرحل من منزل إلى منزل والسلجوقية يراوغونه مراوغة الثعلب فقيل إنه كان يفعل ذلك جبنًا وخورًا وقيل بل راسله السلجوقية واستمالوه ورغبوه فنفس عنهم وتراخى في تتبعهم والله أعلم‏.‏

ولما طال مقام سباشي وعساكره والسلجوقية بخراسان والبلاد منهوبة والدماء مسفوكة قلت الميرة والأقوات على العساكر خاصة‏.‏

فأما السلجوقية فلا يبالون بذلك لأنهم يقنعون بالقليل فاضطر سباشي إلى مباشرة الحرب وترك المحاجزة فسار إلى داود وتقدم داود إليه فالتقوا في شعبان سنة ثمان وعشرين على باب سرخس‏.‏

ولداود منجم يقال له الصومعي فأشار على داود بالقتال وضمن له الظفر وأشهد على نفسه انه إن أخطأ فدمه مباح له فاقتتل العسكران فلم يثبت عسكر سباشي وانهزموا أقبح هزيمة وساروا أخزى مسير إلى هراة فتبعهم داود وعسكره إلى طوس يأخذونهم باليد وكفوا عن القتل وغنموا أموالهم فكانت هذه الوقعة هي التي ملك السلجوقية بعدها خراسان ودخلوا قصبات البلاد فدخل طغرلبك نيسابور وسكن الشاذياخ وخطب له فيها في شعبان بالسلطان المعظم وفرقوا النواب في النواحي‏.‏

وسار داود إلى هراة ففارقها سباشي ومضى إلى غزنة فعاتبه مسعود وحجبه وقال له‏:‏ ضيعت العساكر وطاولت الأيام حتى قوي أمر العدو وصفا لهم مشربهم وتمكنوا من البلاد ما أرادوا فاعتذر بأن القوم تفرقوا ثلاث فرق كلما تبعت فرقة سارت بين يدي وخلفي الفريقان في البلاد يفعلون ما أرادوا فاضطر مسعود إلى المسير إلى خراسان فجمع العساكر وفرق فيهم الأموال العظيمة وسار عن غزنة في جيوش يضيق بها الفضاء ومعه من الفيلة عدد كثير فوصل إلى بلخ وقصده داود إليها أيضًا ونزل قريبًا منها فدخلها يومًا جريدة في طائفة يسيره على حين غفلة من العساكر فأخذ الفيل الكبير الذي على باب دار الملك مسعود وأخذ معه عدة جنائب فعظم قدره في النفوس وازداد العسكر هيبة له‏.‏

ثم سار مسعود من بلخ أول شهر رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ومعه مائة ألف فارس سوى الأتباع وسار على جوزجان فأخذ واليها الذي كان بها للسلجوقية فصلبه وسار منها فوصل إلى مرو الشاهجان وسار داود إلى سرخس واجتمع هو وأخوه طغرلبك وبيغو فأرسل مضمون رسالته‏:‏ إنا لا نثق بمصالحتك بعد ما فعلنا هذه الأفعال التي سخطتها كل فعل منها موبق مهلك وآيسوه من الصلح فسار مسعود من مرو إلى هراة وقصد داود مرو فامتنع أهلها عليه فحصرها سبعة أشهر وضيق عليهم وألح في قتالهم فملكها‏.‏

فلما سمع مسعود هذا الخبر سقط في يده وسار من هراة إلى نيسابور ثم منها إلى سرخس وكلما تبع السلجوقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره ولم يزل كذلك فأدركهم الشتاء فأقاموا بنيسابور ينتظرون الربيع‏.‏

فلما جاء الربيع كان الملك مسعود مشغولًا بلهوه وشربه فتقضى الربيع والأمر كذلك فلما جاء الصيف عاتبه وزراؤه وخواصه على إهماله أمر عدوه فسار من نيسابور إلى مرو يطلب السلجوقية فدخلوا البرية فدخلها وراءهم مرحلتين والعسكر الذي له قد ضجروا من طول سفرهم وبيكارهم وسئموا الشد والترحل فإنهم كان لهم في السفر نحو ثلاث سنين بعضها مع سباشي وبعضها مع الملك مسعود فلما دخلوا البرية نزل منزلًا قليل الماء والحر شديد فلم يكف الماء للسلطان وحواشيه‏.‏

وكان داود في معظم السلجوقية بإزائه وغيره من عشرته مقابل ساقة عساكره يتخطفون من تخلف منهم‏.‏

فاتفق لما يريده الله تعالى أن حواشي مسعود اختصموا هم وجمع من العسكر على الماء وازدحموا وجرى بينهم فتنة حتى صار بعضهم يقاتل بعضًا وبعضهم نهب بعضًا فاستوحش لذلك أمر العسكر ومشى بعضهم إلى بعض في التخلي عن مسعود فعلم داود ما هم فيه من الاختلاف فتقدم إليهم وحمل عليهم وهم في ذلك التنازع والقتال والنهب فولوا منهزمين لا يلوي أول على آخر وكثر القتل فيهم والسلطان مسعود ووزيره يناديانهم ويأمرانهم بالعود فلا يرجعون وتمت الهزيمة على العسكر وثبت مسعود فقيل له‏:‏ ما تنتظر وقد فارقك أصحابك وأنت في برية مهلكة وبين يديك عدو وخلفك عدو ولا وجه للمقام‏.‏

فمضى منهزمًا ومعه نحو مائة فارس فتبعه فارس من السلجوقية فعطف عليه مسعود فقتله وصار لا يقف على شيء حتى أتى غرشستان‏.‏

وأما السلجوقية فإنهم غنموا من العسكر المسعودي ما لا يدخل تحت الإحصاء وقسمه داود على أصحابه وآثرهم على نفسه ونزل في سرادق مسعود وقعد على كرسيه ولم ينزل عسكره ثلاثة أيام عن ظهور دوابهم لا يفارقونها إلا لما لا بد لهم منه من مأكول ومشروب وغير ذلك خوفًا من عود العسكر وأطلق الأسرى وأطلق خراج سنة كاملة وسار طغرلبك إلى نيسابور فملكها ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين وأول سنة اثنتين وثلاثين ونهب أصحابه الناس فقيل عنه إنه رأى لوزينجًا فأكله وقال‏:‏ هذا قطماج طيب إلا أنه لا ثوم فيه ورأى الغز الكافور فظنوه ملحًا وقالوا‏:‏ هذا ملح مر ونقل عنهم أشياء من هذا كثير‏.‏وكان العيارون قد عظم ضررهم واشتد أمرهم وزادت البلية بهم على أهل نيسابور فهم ينهبون الأموال ويقتلون النفوس ويرتكبون الفروج الحرام ويفعلون كل ما يريدونه لا يردعهم عن ذلك رادع ولا يزجرهم زاجر فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون وكفوا عما كانوا واستولى السلجوقية حينئذ على جميع البلاد فسار بيغو إلى هراة فدخلها وسار داود إلى بلخ وبها التونتاق الحاجب واليًا عليها لمسعود فأرسل إليه داود بطلب منه تسليم البلد إليه ويعرفه عجز صاحبه عن نصرته فسجن التونتاق الرسل فنازله داود وحصر المدينة فأرسل التونتاق إلى مسعود وهو بغزنة يعرفه الحال وما هو فيه من ضيق الحصار فجهز مسعود العساكر الكثيرة وسيرها فجاءت طائفة منهم إلى الرخح وبها جمع من السلجوقية فقاتلوهم فانهزم السلجوقية وقتل منهم ثمانمائة رجل وأسر كثير وخلا ذلك الصقع منهم‏.‏

وسار طائفة منهم إلى هراة وبها بيغو فقاتلوه ودفعوه عنها ثم إن مسعودًا سير ولده مودودًا في عسكر كثير مددًا لهذهالعساكر فقتل مسعود وهو بخراسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى فساروا عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فلما قاربوا بلخ سير داود طائفة من عسكره فأوقعوا بطلائع مودود وانهزمت الطلائع وتبعهم عسكر داود فلما أحس به معسكر مودود رجعوا إلى ورائهم وأقاموا فلما سمع التونتاق صلحب بلخ الخبر أطاع داود وسلم إليه البلد ووطيء بساطه‏.‏

  ذكر قبض السلطان مسعود

قد ذكرنا عود مسعود بن محمود بن سبكتكين إلى غزنة من خراسان فوصلها في شوال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبض على سباشي وغيره من الأمراء كما ذكرناه وأثبت غيرهم وسير ولده مودودًا إلى خراسان في جيش كثيف ليمنع السلجوقية عنها فسار مودود إلى بلخ ليرد عنها داود أخا طغرلبك وجعل أبوه مسعود مع وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبر الأمور وكان مسيرهم من غزنة في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين‏.‏

وسار مسعود بعدهم بسبعة أيام يريد بلاد الهند ليشتوا بها على عادة والده فلما سار أخذ معه أخاه محمدًا مسمولًا واستصحب الخزائن وكان عازمًا على الاستنجاد بالهند على قتال السلجوقية ثقة بعهودهم‏.‏

فلما عبر سيحون وهو نهر كبير نحو دجلة وعبر بعض الخزائن اجتمع أنوشتكين البلخي وجمع من الغلمان الدارية ونهبوا ما تخلف من الخزانة وأقاموا أخاه محمدًا ثالث عشر ربيع الآخر وسلموا عليه بالإمارة فامتنع من قبول ذلك فتهددوه وأكرهوه فأجاب وبقي مسعود فيمن معه من العسكر وحفظ نفسه فالتقى الجمعان منتصف ربيع الآخر فاقتتلوا وعظم الخطب على الطائفتين ثم انهزم عسكر مسعود وتحصن هو في رباط ماريكلة فحصره أخوه فامتنع عليه فقالت له أمه‏:‏ إن مكانك لا يعصمك ولأن تخرج إليهم بعهد خير من أن يأخوك قهرًا‏.‏

فخرج إليهم فقبضوا عليه فقال له أخوه محمد‏:‏ والله لا قابلتك على فعلك بي ولا عاملتك إلا بالجميل فانظر أين تريد أن تقيم حتى أحملك إليه ومعك أولادك وحرمك‏.‏

فاختار قلعة كيكي فأنفذه إليها محفوظًا وأمر بإكرامه وصيانته‏.‏

وأرسل مسعود إلى أخيه يطلب منه مالًا ينفقه فأنفذ له خمسمائة درهم فبكى مسعود وقال‏:‏ كان بالأمس حكمي على ثلاثة آلاف حمل من الخزائن واليوم لا أملك الدرهم الفرد فأعطاه الرسول من ماله ألف دينار فقبلها وكانت سبب سعادة الرسول لأنه لما ملك مودود بن مسعود بالغ في الإحسان إليه‏.‏

ثم إن محمدًا فوض أمر دولته إلى ولده أحمد وكان فيه خبط وهوج فاتفق هو وابن عمه يوسف بن سبكتكين وابن علي خويشاوند على قتل مسعود ليصفو الملك له ولوالده فدخل إلى أبيه فطلب خاتمه ليختم به بعض الخزائن فأعطاه فسار به إلى القلعة وأعطوا الخاتم لمستحفظها وقالوا‏:‏ معنا رسالة إلى مسعود فأدخلهم إليه فقتلوه فلما علم محمد بذلك ساءه وشق عليه وأنكره‏.‏

وقيل إن مسعودًا لما حبس دخل عليه ولدا أخيه محمد واسم أحدهما عبد الرحمن والآخر عبد الرحيم فمد عبد الرحمن يده فأخذ القلنسوة من رأس عمه مسعود فمد عبد الرحيم يده وأخذ القلنسوة من أخيه وأنكر عليه ذلك وسبه وقبلها وتركها على رأس عمه فنجا بذلك ثم إن محمدًا أغراه ولده أحمد بقتل عمه مسعود فأمر بذلك وأرسل إليه من قتله وألقاه في بئر وسد رأسها وقيل بلى ألقي في بئر حيًا وسد رأسها فمات والله أعلم‏.‏

فلما مات كتب محمد إلى ابن أخيه مودود وهو بخراسان يقول‏:‏ إن والدك قتل قصاصًا قتله أولاد أحمد ينالتكين بلا رضا مني فأجاب مودود يقول‏:‏ أطال الله بقاء الأمير العم ورزق ولده المعتوه أحمد عقلًا يعيش به فقد ركب أمرًا عظيمًا وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين سيد الملوك والسلاطين وستعلمون في أي حتف تورطتم وأي شر تأبطتم ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 227‏]‏‏.‏

نفلق هامًا من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما وطمع جند محمد فيه وزالت عنهم هيبته فمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا فنهبوها فخربت البلاد وجلا أهلها لاسيما مدينة برشاوور فإنها هلك أهلها ونهبت أموالهم وكان المملوك بها يباع بدينار وتباع الخمر كل منا بدينار ثم رحل محمد عنها لليلتين بقيتا من رجب وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان السلطان مسعود شجاعًا كريمًا ذا فضائل كثيرة محبًا للعلماء كثير الإحسان إليهم والتقرب لهم صنفوا له التصانيف الكثيرة في فنون العلوم وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحاجة تصدق مرة في شهر رمضان بألف ألف درهم وأكثر الإدرارات والصلاة وعمر كثيرًا من المساجد في ممالكه وكانت صنائعه ظاهرة مشهورة تسير بها الركبان مع عفة عن أموال رعاياه وأجاز الشعراء بجوائز عظيمة أعطى شامرًا على قصيدته ألف دينار وأعطى آخر بكل بيت ألف درهم وكان يكتب خطًا حسنًا وكان ملكه عظيمًا فسيحًا ملك أصبهان والري وهمذان وما يليها من البلاد وملك طبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الروان وكرمان وسجستان والسند والرخج وغزنة وبلاد الغور والهند وملك كثيرًا منها وأطاعه أهل البر والبحر ومناقبه كثيرة وقد صنفت فيها التصانيف المشهورة فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها‏.‏